هذه المناظرة دارت بين أحد أعلام التابعين الفقيه العالم والعابد سعيد بن جبير وبين الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان سعيد ممن يعارضن حكم عبدالملك بن مروان (86-26هـ? 705-646م) وكان الحجاج والياً لعبدالملك بن مروان يأخذ بالشبهات ويقوم بالتصفية الجسدية لأي معارض دون هوادة وقد خرج سعيد بن جبير مع ابن «الاشعث» على الحجاج ودعا الناس الى قتال الحجاج لجوره وتجبره، وإماتة الصلاة، واستذلال المسلمين، فلما انهزم ابن الاشعث فر سعيد بن جبير الى مكة، وظل مختفياً، اثنتي عشرة سنة، ثم ألقى القبض عليه والي مكة خالد بن عبدالله القسري، وأراد ان يتخلص من سعيد لمعرفته بفصاحته وسعة بديهته فأرسله مكبلاً في الحديد والاغلال الى الحجاج وأراد الحجاج ان يدخل في محاورة ومناظرة مع سعيد بن جبير- وهو أسيره- قبل أن يأمربقتله.
فسأله الحجاج ما اسمك؟
قال: سعيد بن جبير
ورد الحجاج: بل أنت شقي بن كسير
وابتسم سعيد وهو يجيب: بل كانت أمي أعلم باسمي منك
وانتفخت أوداج الحجاج وهو يقول: شقيت أمك، وشقيت أنت.
سعيد: الغيب يعلمه غيرك
الحجاج: لابد لك بالدنيا ناراً تلظى
سعيد: لوعلمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها
الحجاج: فما قولك في محمد؟
سعيد: نبي الرحمة، وإمام الهدى
الحجاج: فما قولك في «علي» أهو في الجنة أم هو في النار؟
سعيد: لو دخلتها، وعرفت من فيها عرفت أهلها، فما سؤالك عن غيب حفظ الحجاب؟!
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل كل امرئ بما كسب رهين
الحجاج: اشتمهم أم أمدحهم؟
سعيد: لا أقول ما لا أعلم إنما استحفظت امر نفسي
الحجاج: فلأيهم أعجب إليك؟
سعيد: ارضاهم لخالقي
الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم
الحجاج: فأي رجل أنا يوم القيامة؟
سعيد: أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب
الحجاج: أبيت أن تصدقني؟
سعيد: بل لم أرد أن أكذبك
الحجاج: دع عنك هذا كله، أخبرني مالك لم تضحك قط؟ (وكان سعيد بن جبير قد اشتهر بالعبادة والبكاء حتى ضعف بصره من كثرة البكاء بالليل).
سعيد: لم أر شيئاً يضحكني وكيف يضحك مخلوق قد خلق من الطين، والطين تأكله النار، فضلا عن أنني إذا تذكرت بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور ذهبت الابتسامة من فمي.
الحجاج: فما بالنا نضحك؟
سعيد: لم تستو القلوب، كذلك خلقنا الله أطواراً
الحجاج: هل رأيت شيئاً من اللهو؟
سعيد: لا أعلمه
فدعا الحجاج بالعود والناي فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد فقال الحجاج: ما يبكيك؟ فقال سعيد: يا حجاج ذكرتني أمرا عظيماً، والله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسيت ولازلت حزينا لما رأيت.
قال الحجاج: وما كنت رأيت هذا اللهو؟
قال سعيد: بل هذا والله الحزن يا حجاج؟ أما هذه النفخة فذكرتني يوما عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فإنها أمعاء الشاه يبعث بها معك يوم القيامة.
الحجاج: أنا أحب إلى الله منك
سعيد: لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم
الحجاج: كيف لا أقدم على ربي في مقامي هذا وأنا مع إمام اجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟
سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براض عن الفتنة ولكن قضاء الرب نافذ لا مرد له.
الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟
سعيد: لم أر
فأمر الحجاج بالذهب والفضة واللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا
الحجاج: فترى جمعنا طيباً؟!
سعيد: برأيك جمعته وأنت أعلم بطيبه
الحجاج: أتحب أن لك شيئا منه
سعيد: لا أحد ما لا يحب الله
ولما أدرك الحجاج فشل محاورته مع سعيد بن جبير فقد أعصابه وكاد ينهي هذه المحنة بما دبر لها ولكنه تريث قليلا لعل سعيد يغير مواقفه، عندئذ صرخ الحجاج: ويلك يا سعيد
فرد سعيد بثبات: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار
وعبث الحجاج بعصا في يده وهو يقول ساخراً: اختر لنفسك يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك!
فرد سعيد: اختر أنت لنفسك فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة
وابتسم الحجاج مطمعاً: أفتريد أن أعفو عنك
وبثقة العارف بالله أجاب سعيد: إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
عندئذ ضاق الحجاج ذرعا بسعيد، وعرف أنه لن يحصل منه على شيء وهو يتلقى منه هذه الأجوبة الجريئة، والتي كانت كالسهام التي ترشق في قلب الحجاج، فأمر بإنهاء المحاورة وصرخ: اذهبوا به فاقتلوه.
فلما خرج سعيد مع الحراس ليقتلوه ضحك، فأخبروا الحجاج ان سعيدا الذي ضعف بصره من البكاء، ولم ير ضاحكا ابداً قد ضحك فأمر الحجاج برده اليه وقال ما اضحكك؟
فقال سيعد: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.
فأمر الحجاج بالنطع فبسط - النطع هو بساط كان يمد قبل القتل- وقال: اقتلوه
فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: اصرفوه عن القبلة فصرفوه عنها
فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله
فصرخ الحجاج: كبوه على وجهه
فابتسم سعيد وهو يقول: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى
وأشار الحجاج بيده: اذبحوه
فنظر سعيد إلى السماء وهو يقول: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة.. اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.
فذبح من الوريد الى الوريد ولسانه رطب بذكر الله
قالوا: وبلغنا ان الحجاج ينادي بقية حياته: مالي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي.
وقالوا: لم يلبث الحجاج بعده إلا أربعين يوماً وكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدو الله! فيم قتلتني؟ فيقول الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير؟ مالي ولسعيد بن جبير.
وقالوا أيضاً: عاش الحجاج بعد قتل سعيد بن جبير، أياما قلائل فسلط الله عليه «البرودة» حتى كان والنار حوله يضع يده في الفرن فيحترق الجلد، ولا يحس بالحرارة ووقعت الاكلة في داخله والدود، فبعث إلى الحسن البصري، فقال له: أما قلت لك: لا تتعرض للعلماء؟ قتلت سعيداً!! اللهم انت على فاسق ثقيف والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار!
فقال الحجاج: أما إني ما طلبتك لتدعو لي، ولكن ليريحني الله مما أنا فيه ثم مات الحجاج، وكان ينادي بقية حياته: مالي ولسعيد بن جبير؟ مالي ولسعيد بن جبير؟!
يقول أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.
وعن جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير، وعن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.